فصل: المقصد العاشر في ابتداء عمارتها وتسميتها مصر وتفرع الأقاليم التي حولها عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد السابع في ذكر زروعها ورياحينها وفواكهها وأصناف المطعوم بها:

أما زروعها- فيزرع فيها من أنواع الحبوب المقتاتة وغيرها كالبر، والشعير، والذرة، والأرز، والباقلي، والحمص، والعدس، والبسلا، والجلبان، واللوبيا، والسمسم، والقرطم، والخشخاش، والخروع، والسلجم، وبزر الكتان، والبرسيم، وغير ذلك.
وبها قصب السكر في غاية الكثرة، والبطيخ، والقثاء على اختلاف أنواعها، والملوخيا، والقلقاس، واللفت، والباذنجان، والدباء، والهيلون، والقنبيط، وأنواع البقول المختلفة، كالثوم، والبصل، والكراث، والفجل، وغيرها؛ وعامة زرع حبوبها على النيل عند نزوله عن أرضها من أثناء بابه من شهور القبط إلى أثناء طوبه منها بحسب ما يقتضيه حال الزرع. وربما زرع فيها على السواقي والدواليب؛ وأكثر ما يكون ذلك في بلاد الصعيد خصوصاً في سني الجدب؛ ويزرع في الفيوم في غير زمن النيل على نهره المنهى المتقدم ذكره في جملة الأنهار. ولا زرع فيها على المطر إلا القليل النادر بأطراف البحيرة مما لا عبرة به على قلة المطر بها بل فقده بصعيدها.
وأما رياحينها- ففيها الأس، والورد، والبنفسج، والنرجس، والياسمين، والنسرين، والبان، واللينوفر، وأزهار المحمضات، والريحان الفارسي على اختلاف أنواعه، والمنثور فيها بقلة، وإنما كثر بالإسكندرية، إلى غير ذلك من بقايا الأنواع التي يشق استيعابها.
وأما فواكهها- ففيها الرطب، والعنب، والتين، والرمان، والخوخ، والمشمش، والقراصيا، والبرقوق، والتفاح، والكمثرى، والسفرجل بقلةٍ، واللوز الأخضر، والنبق، والتوت، والفرصاد، والموز، ولا يوجد فيها الجوز، والفستق، والبندق، والإجاص إلا مجلوباً بعد جفافه، وإن زرع بأرضها شيء من ذلك، لم يفلح؛ والزيتون فيها بقلةٍ، ولا يستخرج منه زيت البتة وإنما يؤكل ملحاً.
وفيها من المحمضات: الأترج، والحماض، والكباد، والنارنج، والليمون، على اختلاف أنواعها.
وأما أصناف المطعوم: ففيها ما يستطاب من الألبان، والأجبان، والعسل، الذي لا يساوى حسناً ولا يشهبه غيره من سائر الأعسال، والسكر الكثير: من المكرر، والتبع، والوسط، والنبات. ومنها يجلب إلى أكثر البلاد. قال في مسالك البصار: وقد نسي به ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها من أنواع الحلوى والأشربة المتخذ ذلك من السكر، والأشربة الفائقة ما لا يوجد في غيرها من الأقاليم.
وبها من لحم الضأن، والبقر، والمعز، ما لا يعادله غيره في قطرٍ، الأقطار لطافةً ولذةً.
قلت: ومن محاسنها أن فاكهتها لا يدوم نوع منها في جميع السنة فيمل، بل يأتي كل نوع منها في وقت دون وقت، فتتشوف النفوس إلى طلبه، ويكون لقدومه بهجة. ولا يعترض ذلك بدوام أكل الجنة، فإن الجنة أكلها لا يمل بخلاف مآكل الدنيا. ولأهل الرفاهية بذلك فرحةٌ، وتتغالى فيه ابتدائه مع أنه يجتمع في الحين الواحد من الفواكه والرياحين ما لايحتاج معه في زمنه إلى غيره.
قال المهذب بن مماتي في قوانين الدواوين: بعثت غلاماً لي ليحضر من فكاهي القاهرة ما وجد بها من أنواع الفاكهة والرياحين فأحضر لي منها الورد، والنرجس، والبنفسج، والياسمين، والمنثور، والمرسين، والريحان، والطلح، والبلح والجمار والخيار، والبطيخ الأخضر، والباقلى، والتفاح، والفقوس، والأترج، والنارنج، والأشباه، والليمون، والتمر هندي الأخضر، والعنب، والحصرم.
وقال بعض الجوالين في الأفاق: طفت أكثر المعمور من الأرض فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبه، ولبن أمشير، وخروب برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بؤنة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابه، وموز هتور، وسمك كيهك.

.المقصد الثامن في ذكر مواشيها ووحوشها وطيورها:

أما مواشيها- فمنها الإبل المستجادة، والبقر العظيمات القدود، والأغنام المستطابة اللحوم، والخيول المسومة، والبغال النفيسة، والحمر الفارهة مما ليس له نظير في إقليم من الأقاليم، ولا مصر من الأمصار.
وأما وحوشها- ففي براريها: الغزلان، والنعام، والأرانب، والثعالب، والضباع، والذئاب، وغير ذلك. ويجلب إلى سلطانها الفيلة، والزرافات، وغيرها من الوحوش من البلاد القاصية، والسباع من بلاد الشام من مملكته لتكون في إصطبلاته زينةً لمملكته. وأما طيورها- ففيها من الطيور الدواجن في البيوت: الدجاج، والإوز، والحمام؛ ومن الطيور البرية: الصقر، والعقاب، والنسر، والكركي، واللغلغ، والإوز التركي، والمرزم، والبجع، والبلشون، والحبرج، والحجل، والكروان، والسماني، والبلبل، وسائر أنواع العصافير، والأنواع المختلفة من طيور الماء. ويجلب إلى سلطانها سائر أنواع الجوارح الصائدة على اختلاف أجناسها من أقاصي البلدان، ويقع التغالي في أثمانها للغاية القصوى على ما يأتي ذكره في الكلام على أوصافها إن شاء الله تعالى.

.المقصد التاسع في ذكر حدودها:

قد اضطربت عبارات المصنفين في المسالك والممالك في تحديدها، والذي عليه الجمهور أن حدها الشمالي، وهو المعبر عنه عند المصريين بالبحري، يبتديء مما بين الزعقة ورفحٍ عند حدها من الشام والبحر شماله، ويمتد غرباً على ساحل البحر المذكور حيث الشجرتان عند الشجرة التي يعلق فيها العوام الخرق وتقول هذه مفاتيح الرمل، عند الكثب المجنبة عن البحر الرومي، إلى رفح ثم إلى العريش آخذاً على الجفار، إلى الفرما، إلى الطينة، إلى دمياط إلى ساحل رشيد، إلى الإسكندرية، وهي آخر العمارة بهذا الحد. ثم يأخذ على اللينونة، على العميدين، إلى برقة، إلى العقبة الفاصلة بين الديار المصرية وإفريقية على ما تقدم ذكره في الكلام على سواحل البحر الرومي.
وحدها الغربي- يبتديء من ساحل البحر الرومي حيث العقبة، ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان.
وحدها الجنوبي- وهو المعبر عنه عند المصريين بالقبلي، يبتديء من آخر هذا الحد بصحراء الحبشة ويمتد شرقاً، وبلاد الروم من بلاد البرية جنوبيه حتى يأتي إلى أسوان، ثم يمتد من أسوان شرقاً حتى ينتهي إلى بحر القلزم مقابل أسوان على خمس عشرة مرحلة منها وحدها الشرقي- يبتديء من آخر هذا الحد ويمتد شمالاً وبحر القلزم شرقيه، إلى عيذاب، إلى القصير، إلى القلزم، إلى السويس، ثم يأخذ شرقاً عن بركة الغرندل التي أغرق الله تعالى فيها فرعون من بحر القلزم إلى تيه بني إسرائيل؛ ثم يعطف شمالاً ويمر على أطراف الشام حتى ينحط على ما بين الزعقة ورفح ساحل البحر الرومي حيث وقعت البداءة.
وهلى هذا التحديد جرى السلطان عماد الدين صاحب حماة في تقويم البلدان والمقر الشهابي بن فضل الله في التعريف إلا أنه في تقويم البلدان جعل ابتداء الحد الشمالي نفس رفح، ونهاية الحد الغربي حدود بلاد النوبة؛ وفي التعريف جعل ابتداء الحد الشمالي ما بين الزعقة ورفح، ونهاية الحد الغربي صحراء بلاد الحبشة على ما تقدم في التحديد، والأمر في ذلك قريب.
وخالف في ذلك القضاعي فجعل ابتداء الحد الشمالي من العريش، وليس فيه بعدٌ عن رفح بل في الآثار ما يدل عليه، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وجعل الحد الجنوبي يقطع بحر القلزم وينتهي إلى ساحل الحجاز بالحوراء: أحد منازل طريق الحجاز من مصر؛ والحد الشرقي يمتد على ساحل البحر الشرقي إلى مدين، إلى أيلة، إلى تيه بني إسرائيل، إلى العريش، فأدخل بحر القلزم من حد الحوراء إلى نهايته في الشمال، وما على ساحله من بر الحجاز مما يسامت العريش كأيلة ومدين ونحوها في أرض مصر.
قلت: وفيه نظر، والظاهر ما تقدم لأن البر الشرقي من القلزم معدود من ساحل الحجاز من جملة جزيرة العرب، وهي ناحية على انفرادها؛ وكأن الذي حمل القضاعي على ذلك مسامته هذا الساحل لحدها بساحل البحر الرومي على ما تقدم.
واعلم أن جميع المحددين لها وإن اختلفت عباراتهم في ابتداء الحد الشمالي الفاصل بينها وبين الشام، هل هو من العريش أو من رفحٍ، أو بين الزعقة ورفحٍ، متفقون على أن ابتداء الحد حيث الشجرتان، وكأنهما شجرتان قديمتان حدد في الأصل بهما.
قال في التعريف: وما إخال الآن بقاء الشجرتين، وإنما هو موضع الشجرة التي تعلق فيها العوام الخرق، ويقولون هذه مفاتيح الرمل عند الكثب المجنبة عن البحر الرومي قريباً من الزعقة.
قال: فأما الأشجار التي بالمكان المعروف الآن بالخروبة، ويعرف قديماً بالعش، فهي وإن عظمت محدثة من زمن من حدد الأقاليم، وليست في موضع ما ذكروه.
ثم لها طول وعرض، فطولها ما بين جهتي الشمال والجنوب، وعرضها ما بين جهتي المشرق والمغرب. وقد قيل: إن طولها مسيرة شهر وعرضها مسيرة شهر.
وذكر القضاعي أن ما بين العريش إلى برقة أربعون ليلة.

.المقصد العاشر في ابتداء عمارتها وتسميتها مصر وتفرع الأقاليم التي حولها عنها:

أما ابتداء عمارتها- فقد ذكر المؤرخون أنها عمرت مرتين: المرة الأولى- قبل الطوفان؛ وأول من عمرها قبل الطوفان نقراووس بن مصريم بن براجيل بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه السلام، نزلها في سبعين رجلاً من بني غرباب جبابرة، فعمرها.
وهو الذي هندس نيلها وحفره حتى أجراه ووجه إلى البرية جماعةً هندسوه وأصلحوه، وبنى المدن وأثار المعادن، وعمل الطلمسات.
المرة الثانية- بعد الطوفان، وأول من عمرها بعد الطوفان مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، قدم إليها هو وأبوه بيصر في ثلاثين رجلاً من قومه حين قسم نوح الأرض بين بنيه، فنزلوا بسفح المقطم، ونقروا فيه منازل كبيرة نزلوا بها ثم ابتنوا مدينة منف وسكنوها على ما يأتي ذكره في الكلام على قواعد مصر القديمة إن شاء الله تعالى.
قال ابن لهيعة: وكان نوح عليه السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله تعالى الأرض الطيبة المباركة التي هي أمن البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات، ويسخر له الأرض ولولده ويذللها لهم، ويقويهم عليها. فسأله عنها فوصفها له، وأخبره بها.
وأما تسميتها مصر- فقيل: إن نقراووس بن مصريم أول ملوكها قبل الطوفان حين عمرها سماها باسم أبيه مصريم تبركاً، وإن مصر بن بيصر إنما سمي باسمه.
وأكثر المؤرخين على أنها سميت بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وعلى الوجهين تكون علماً منقولاً عن اسم رجل.
وقال الجاحظ في رسالة له في مدح مصر: إنما سميت مصر بمصرٍ لمصير الناس إلياها.
قلت: ويجوز أن تكون سميت مصر لكونها حداً فاصلاً بين بلاد المشرق والمغرب، إذ المصر في أصل لغة العرب اسم للحد بين الأرضين كما قاله القضاعي، ومنه قول أهل هجر: اشتريت الدار بمصورها، أي بحدودها.
قال القضاعي وكيف ما، أما إن أريد بالمصر البلد العظيم فإنه ينصرف ويجمع على أمصار.
وأما تفرع الأقاليم التي حولها عنها- فعن ابن لهيعة أنه لما استقر مصر بن بيصر بهذه البلاد وهو وأبوه بيصر ووإخوته: فارق، وماح، وياح وكثر أولادهم، قال له إخوته: قد علمت أنك أكبرنا وأفضلنا، وإن هذه الأرض أسكنك إياها جدك نوح، ونحن نضيق عليك أرضك، ونحن نطلب إليك بالبركة التي جعلك فيها جدك نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها، وتكون لنا ولأولادنا، فقال: نعم عليكم بأقرب البلاد إلي، لا تباعدوا مني، فإن لي في بلادي هذه مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي، وتكون لي ولولدي وأولادهم.
فحاز مصر لنفسه ما بين الشجرتين اللتين بالعريش إلى أسوان طولاً، ومن برقة إلى أيلة عرضاً.
وحاز فارق لنفسه ما بين برقة إلى إفريقية، فكان ولده الأفارقة، وبذلك سميت إفريقية، وذلك مسيرة شهر.
وحاز ماح ما بين الشجرتين من منتهى حد مصر إلى الجزيرة، مسيرة شهر، وهو أبو نبط الشام، وحاز ياح ما وراء الجزيرة كلها من البحر إلى الشرق مسيرة شهر، فهو أبو نبط العراق.
وقد قال القضاعي بعد ذكر حدود مصر الأربعة: وما كان بعد هذا من الجانب الغربي فهو من فتوح أهل مصر وثغورهم من برقة إلى الأندلس.
قلت: وذلك أن المسلمين بعد فتح مصر توجهت طائفة منهم إلى إفريقية ففتحها، ثم توجهت طائفة من إفريقية إلى الأندلس ففتحته، على ما سيأتي ذكره في الكلام على مكاتبات ملوك الغرب إن شاء الله تعالى.

.المقصد الحادي عشر في ذكر قواعدها القديمة والمباني العظيمة الباقية على ممر الأزمان والقواعد المستقرة وما فيها من الأبنية الحسنة وقواعدها القديمة:

على ضربين:
الضرب الأول: ما قبل الطوفان:
والمعروف لها إذ ذاك قاعدتان:
القاعدة الأولى- مدينة أمسوس وهي أول مدينة بنيت بالديار المصرية قبل الطوفان، بناها نقراووس بن مصريم بن براجيل بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه السلام، أول ملوك مصر قبل الطوفان، وموضعها خارج الإسكندرية تحت البحر الرومي كما ذكره بعض المؤرخين، وشق لها نهراً يتصل بها من النيل.
القاعدة الثانية- مدينة برسان وهي مدينة بناها نقراووس المتقدم ذكره لابنه مصرايم وأسكنه فيها، ولم أقف على مكانها.
الضرب الثاني: قواعدها فيما بعد الطوفان:
والمشهور منها ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى- مدينة منف قال في تقويم البلدان: بكسر الميم وسكون النون وفاء في الآخر والجاري على الألسنة منف بفتح الميم وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في الأطوال: طولها ثلاث وخمسون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها ثلاثون درجة وعشرون دقيقة، وهي أول مدينة بنيت بمصر بعد الطوفان، بناها مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام حين نزل مصر.
قال في الروض المعطار وأصلها بالسريانية مافه، ومعناها بالعربية ثلاثون؛ وذلك أن مصر حين نزلها كان في ثلاثين رجلاً من أهل بيته، فسماها بعددهم.
قال ابن الأنباري في كتابه الزاهر: وهي على اثني عشر ميلاً من الفسطاط.
قلت: ومنفٌ هذه في جنوبي الفسطاط على القرب من البلدة المعروفة بالبدرشين من عمل الجيزة، وهي المعروفة بمصر القديمة، وقد خربت وصارت كيماناً، وبها آثار بنيان من الحجر الكذان يوجد تحت الردم، على القرب من أحجار الأهرام في العظمة والمقدار، وبوسطها آثار برباةٍ بها صنمان عظيمان من حجر صوان أبيض، طول كل صنم منهما نحو عشرين ذراعاً، وهما مطروحان على الأرض، وقد غطى الطين أسفلهما.
وكان على القرب منهما بيت عظيم منن حجر أخضر، قطعة واحدة: جوانبه الأربعة وأرضه وسقفه، ولم يزل على ذلك إلى الدولة الناصرية حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، وأراد الأمير شيخو أتابك العساكر نقله إلى القاهرة صحيحاً فعولج فانكسر فأمر بأن تنحت منه أعتاب فنحتت وجعل منها أعتاب خانقاه وجامعه بصليبة الجامع الطولوني، وشرقي هذه المدينة معالم سور مبني بالحجر الكذان النحيت فصوصاً صغاراً بالطين والجير الذي قد علمت، لونه لون الحجر. ويقال: إنه سور الأهراء التي بناها يوسف عليه السلام لادخار الحنطة في سنبلها.
ويذكر بعض أهل البلاد أنه يوجد بعض السنبل الذي أخبره به يوسف عليه السلام تحت تلك الأرض إلى الآن. وأنه في المقدار فوق مقدار الحنطة المتعارفة بقليل.
وفي شمالي هذه المدينة بلدةٌ صغيرة تعرف بالعزيزية، يقال إنها كانت منزلة العزيز وزير الملك، وهناك مكان على القرب منها يعرف بزليخا، وفي غربيها إلى الشمال في سفح جبل مصر الغربي سجن يوسف عليه السلام، وإلى جانبه مسجد موسى عليه السلام، وعلى القرب من السور المقدم ذكره مسجد يعقوب عليه السلام.
ويقال: إن النيل كانت تحت هذه السور، وهناك مكان يعرف بالمقياس إلى الآن.
القاعدة الثانية- مدينة الإسكندرية نسبة إلى الإسكندر بن فليبس المقدوني ملك اليونان المقدم ذكره.
وقد ذكر القضاعي: أنه كان بها عدة عجائب، من أعجبها المنارة، وهي منارة مبنية بالحجر والرصاص ارتفاعها في الهواء ثلثمائة ذراع كل ذراع ثلاثة أشبار، وقيل أربعمائة ذراع، وقيل مائة وثمانون ذراعاً، وقيل بالحجر لغلبة الجير فيه، وعلى رأسها مرآة من أخلاط يرى فيها من حضر إليها على بعدٍ، وتهتدي بها المراكب السائرة إلى الإسكندرية إذ برها منخفض لا جبال فيها، تحرق بشعاعها ما أرادوا إحراقه من المراكب الواصلة، احتال عليها النصارى في أوائل الإسلام في خلافة الوليد بن عبد الملك الأموي فكسروها، وتداعى هدم المنارة شيئاً فشيئاً إلى أوساط المائة الثامنة فاستؤصلت وبقي أثرها.
ومنها الملعب الذي كانوا يجتمعون فيه يوم من السنة ثم يرمون بكرةٍ فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر، وإن حضر فيه ألف ألف من الناس كان كل منهم ناظراً في وجه صاحبه، وإن قريء كتاب، سمعوه جميعاً، أو أتي بنوع من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسفلة.
وكان من غريب هذا الملعب أن عمرو بن العاص رضي الله عنه حضر فيه في الجاهلية في يوم لعب الكرة فوقعت الكرة في حجره، وهم لا يعرفونه، فتعجب القوم منه وقالوا: ما رأينا هذه الكرة كذبت قط إلا هذه المرة، فاتفق أن ملكها في الإسلام.
وعمود السواري الذي بظاهر الإسكندرية الآن أحد عند هذا الملعب، وهو عمود عظيم يرمي الرجل القوي السهم عن قوسٍ قوي فلا يبلغ رأسه.
ومنها عموداً الإعياء، وهما عمودان ملقيان وراء كل منهما جبل حصباؤه كصبر الجمار يقبل العيي بسبع حصيات حتى يستلقي إلى أحدهما، ثم يرمي وراءه بالسبع ويقوم ولا يلتفت، ويمضي لطلبته فلا يحس بشيء من تعبه.
ومنها القبة الخضراء وهي قبة ملبسة نحاساً كأنه ذهب إبريز لا يبليه القدم ولا تخلقه الدهور.
ومنها المسلتان، وهما جبلان قائمان على سرطانات نحاس في أركانهما كل ركن على سرطان، فلوأراد مريد أن يدخل تحتها شيئاً إلى الجانب الآخر لفعل.
قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: وهاتان المسلتان إحداهما في الركن الشرقي من البلد، والثانية ببعض البلد، وهما عمودان مربعان من حجر أحمر، وعرض قواعدهما من الجهات الأربع أربعون شبراً، طول كل واحدة منهما خمس مقامات، وأعلاها مستدقٌ وعرض قاعدتهما من الجهات الأربع أربعون براً.
ويقال: إن عليهما مكتوب بالسريانية: أنا يعمر بن شداد، بنيت هذه المدينة وأردت أن أجعل فيها من الآثار المعجزة، والعجائب الباهرة، فأرسلت البتون بن مرة العادي ومقدام بن يعمر بن أبي رغال الثمودي إلى جبل بريم الأحمر، فاقتطعوا منه حجرين وحملاهما على أعناقهما، فانكسرت ضلع البتون، فوددت أن أهل مملكتي كانوا فداء له؛ فأقامهما القطن بن حازم المؤتفكي في يوم السعادة.
وقد قيل فيها: إنها إرم ذات العماد، ولم تزل عامرة إلى الفتح الإسلامي، فلما فتحها عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أما بعد. فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، وأربعة آلاف حمامٍ، وأربعوون ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهىً للملوك.
ويقال: إنه وجد فيها أربعة آلاف بقالٍ يبيعون البقل، وكان فيها من الروم يومئذ مائة ألف من أهل القوة لحقوا بأرض الروم في المراكب وكان من بقي ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.
قلت: وقد ذهب جل ذلك وزال أكثره، ولم يبق من عجائبها ظاهراً إلا عمود السواري، وهو عمود عظيم من حجر الصوان خارج المدينة لا يكاد يكون له نظير في الدنيا، ويقال: إنه كان قبلها مدينة في مكانها تسمى رقودة بناها مصر بن بيصر بن حام بن نوح المتقدم ذكره حين بني مدينة منف، وعلى منوالها نسج الإسكندر مدينته.
القاعدة الثالثة- قصر الشمع الذي هو داخل مدينة الفسطاط الآن، وهو المعبر عنه في كتب الفتوح بالحصن، بناه كسرجوس الفارسي أحد نواب ملك الفرس عند استيلائهم على مصر بعد غلبة بخت نصر الآتي ذكره في الكلام على ملوكها.
قال القضاعي ولم يكمله وإنما كمله الروم بعد ذلك التي فتحت مصر وهي مقرة الملوك بها.
وقد قيل: إن المقوقس كان يقيم بالإسكندرية أربعة أشهر من السنة، وبمدينة منف أربعة أشهر، وبقسر الشمع أربعة أشهر.
واعلم أنه قد كان بالديار المصرية مستقرات أخرى عظام كانت قواعد لبعض ملوكها في بعض الأزمان، ومدن دون ذلك يأتي الكلام على جميعها بعد ذكر الكور القديمة والأعمال المستقرة إن شاء الله تعالى.
وأما المباني العظيمة الباقية على ممر الأزمان- فاعلم أن ملوك مصر الأقدمين كان لهم من العناية بالبناء ما ليس لغيرهم، وكانوا يتفاخرون بذلك لإخباره على طول الزمن بعظمة ملكهم واقتدارهم على ما لم يبلغه غيرهم. ومن أعظم أبنيتهم الأهرام وهي قبورٌ اتخذوها في غاية الوثاقة حفظاً لأجسامهم، وكان لهم بها العناية التامة، وابتنوا منها عدة بالجبل الغربي من النيل، بعضها مقابل الفسطاط، وبعضها ببوصير السدر وسقارة ودهشور من الأعمال الجيزية، وبعضها بميدوم من البهنساوية، وأعظمها خطراً وأجلها قدراً الهرمان المقابلان للفسطاط، يقال إن طول عمود كل هرم منهما ثلاثمائة وسبعة عشر ذراعاً، تحيط بها أربعة سطوح متساوية الأضلاع، طول كل ضلع منها أربعمائة وستون ذراعاً.
قال أبو الصلت: ليس على وجه الأرض بناءٌ باليد حجر على حجر بهذا المقدار.
ويقال: إن لها أبواباً في أزج في الأرض طول كل درجٍ مائة وخمسون ذراعاً.
وباب الهرم الشرقي من الجهة البحرية، وباب الهرم الغربي من الناحية الغربية، والصابئة تحج هذين الهرمين ويقولون: إن أحداهما قبر إدريس عليه السلام، والآخر قبر ابنه صابىء الذي إليه ينتسبون.
وقد اختلف في بانيها فأكثر المؤرخين على أن بانيها سوريد بن سهلوق أحد ملوك مصر قبل الطوفان، الآتي ذكره في الكلام على ملوكها فيما بعد إن شاء الله تعالى، جعلها قبوراً لأجسادهم، وكنوزاً لأموالهم، حين أخبره منجموه وكهنته بما دلهم عليه الرصد النجومي من حدوث حادثة تعم الأرض؛ ورجحه محمد بن عبد الله بن الحكم وقال: لو بنيت الأهرام بعد الطوفان، لكان علمها عند الناس.
وذكر ابن عفير عن أشياخه أن بانيها جياد بن مياد بن شمر بن شداد بن عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
قال: ولم تزل مشايخ مصر يقولون: إن الذي بناها شداد بن عاد، وذهب المسعودي وغيره إلى أنه بناها يوسف عليه السلام.
وقال ابن شبرمة: بنتها العمالقة حين ملكوا مصر. وبالجملة فهما من أعظم الآثار وأقدمها وأجل المباني وأدومها؛ ولله القائل:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما ** ما يرويان عن الزمان الغابر

لو ينطقان لخبرانا بالذي ** صنع الزمان بأولٍ وبآخر

وكيفما كان فمآلهما إلى الخراب، شأن الدنيا ومبانيها.
وقد كان المأمون، أحد الخلفاء بني العباس، حين دخل إلى مصر في سنة ست عشرة ومائتين قصد هدمهما فلم يقدر، فأعمل الحيلة في فتح طاقة في أحدهما يتوصل منها إلى مزلقان، يصعد في أعلاه إلى قاعة بأعلى الهرم، بها ناووس من حجر، وينزل في أسفله إلى بئر تحت الأرض لم يعلم ما فيها.
ويقال: إنه وجد في أعلاه مالاً فاعتبره فإذا هو قدر المال الذي صرفه من غير زيادةٍ ولا نقص، وقد أخذ الآن في قطع حجارتهما الظاهرة لاتخاذ البلاط منها، فإن طال الزمان يوشك أن يخربا كغيرهما من المباني.
ولله المتنبي حيث يقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ** ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أصحابها ** دهراً ويدركها الفناء فتتبع

قال إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب العجائب: وقد قيل إن هو جيب أحد ملوك مصر قبل الطوفان أيضاً بني الهرم الكبير الذي بدهشور، والثاني بناه قفطريم، بن قفط، بن قبطيم، بن مصر، بن بيصر، بن حان، بن نوح عليه السلام بعد الطوفان.
قال القضاعي: أما الهرم الذي بدير أبي هرميس، وهوالهرم المدرج يعين الذي شمالي أهرام دهشور، فإنه قبر قرياس، وهو فارس أهل مصر، كان يعد فيهم بألف فارس، فلما مات جزع عليه ملكه وبني له وبني له هذا الهرم فدفنه فيه.
قال: وقبر الملك نفسه الهرم الكبير من الأهرام التي غربي دير أبي هرميس، وعليه بابه لوح من الحجر الكذان طوله ذراع في ذراع مكتوب ببالخط البرباوي.
ومن عظيم بنيانهم أيضاً ولطيف حكمهم البرابي وهي بيوت عبادة كانت لهم، زبروا فيها حكمهم، ورقموا تواريخ ملوكهم، وصوروا فيها صور الأمم التي حولهم.
فمتى قصدتم أمة من الأمم، أوقعوا بصورهم من النكال ما أرادوا، فيصب تلك الأمة على البعد ما أوقعوه بتلك الصور، إلى غير ذلك من الحكم التي أودعوها والطلسمات التي وضعوها بجدرانها.
ويقال: إن أول من بني البرابي بمصر دلوكة العجوز، التي ملكت مصر بعد فرعون لعنه الله! قال في مسالك الأبصار: وقد أخبرني الحكيم شمس الدين محمد بن سعد الدمشقي أنه رآها وتأملها، فوجدها مشتملة على جميع أشكال الفلك، وأن الذي ظهر له أنه لم يعلمها حكيم واحد بل تولى عليها قوم بعد قوم حتى تكاملت في دورٍ، وهو ثلاثون ألف سنة، لن مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد ولا يكمل رصد المجموع في أقل من هذه المدة.
قلت: ويجوز أن يكون الرصد حصل على الوجه المذكور، وزبر ورقم في الكتب، فلما بني الثاني هذه البرابي، نقل منها ما زبر في الكتب من ذلك الزمن المتقدم.
واعلم أن أكثر البرابي بالوجه القبلي من الديار المصرية، وبالوجه البحري القليل منها، وقد استولى الخراب على جميعها، وذهبت معالمها ولم يبق إلا آثارها، والذي وقفت عليه في التواريخ، ووقفت على آثار غالبه ورسومه سبع برابٍ: منها بربا سمنود؛ كانت بظاهر سمنود من الأعمال الغربية بالوجه البحري.
قال الكندي: رأيتها وقد خزن فيها بعض عمالها قرضاً فرأيت الجمل إذ دنا من بابها بحمله وأراد أن يدخلها، سقط كل دبيب في القرظ فلا يدخل منها شيء إلى البربا.
قال القضاعي: ثم خربت عند الخمسين وثلمائة.
ومنها بربا تمي بالمرتاحية من الوجه البحري على القرب من مدينة تمي الخراب، وعامة أهل تلك الناحية يقولون بربا عاد، وهي باقية بجدرانها، وسقوفها من أعظم الحجارة العظيمة، إلى الآن باقية، وبأعلى بابها قطعة مبنية بالطوب الأجر والجص، وداخلها أحواض عظيمة من الصوان غريبة الشأن.
ومنها بربا إخميم، وهي بربا بظاهر مدينة إخميم من الوجه القبلي؛ كانت من أعظم البرابي وأحسنها صنعةً وأكبرها حكمة، ولم تزل عامرة إلى أوساط المائة الثامنة، فأخذ في هدمها والعمارة بأحجارها خطيب إخميم، ولم يبق إلا آثارها، وبعض جدرانها قائمة إلى الآن.
ومنها بربا دندرة من الأعمال القوصية.
قال القضاعي: وهي بربا عجيبة فيها مائة وثمانون كوة تدخل الشمس في كل يوم في كوة منها، ثم تكر راجعة إلى الموضع الذي بدأت منه، وهي الآن خراب لم يبق إلا آثارها.
ومنها بربا الأقصر: وكاتنت بربا عظيمة فهدمت أيضاً، ولم يبق منها إلا آثارها.
ومن بقايا الآثار بها صنم عظيم من حجر صوان أملس، قائم على باب ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصري على حاله إلى الآن، ومر عليه زمن الشيخ وهو على ذلك، ولعله إنما أراد ببقائه التنبيه على ضعف عقول عبدة الأصنام لكونهم يعبدون حجراً مثل هذا.
ومنها بربا أرمنت، وهي بربا صغيرة قد ذهبت معالمها، ولم يبق بها إلا عمد صوان قائمة من غير شيء محمول عليها.
ومنها بربا إسنا، وهي متوسطة القدر بين الكبر والصغر، وقد بقي منها قطعة جيدة جعلت شونة للغلال، وأهل إسنا يذكرون أن الفأر لا يدخلها، وإن دخلها مات.
ومن الآثار العجيبة بمصر أيضاً مسلتان بعين شمس على القرب من المطرية من ضواحي القاهرة من حجر صوان أحمر محددتا الرأسين.
ذكر القضاعي: أن الشمسس تطلع على الجنوبية منهما في أقصر يوم في السنة، وعلى الشمالية في أطول يوم في السنة، وتتردد فيما بينهما في بقية السنة.
وذكر أنه كان عليهما صومعتان من نحاس، إذا كان زمن زيادة النيل تقاطر الماء من أعلاهما إلى أسفلهما، فينبت حولهما العوسج، وما في معناه من الحشيش.
ومن العجائب حائط العجوز، وهو حائط من لبنٍ، بنتها دلوكة ملكة مصر بعد فرعون، من العريش إلى أسوان، دائرة على أراضي مصر من شرقيها وغربيها في لحف جبليها؛ وجعلت بين كل ثلاثة أميال محرساً، وشقت خليجاً من النيل إلى جانبها، وآثارها باقية إلى الآن بالجانب الشرقي والجانب الغربي.